في زوايا المجتمع العربي الخفية، حيث يُرفع الستار عن الطموحات الصغيرة والكبيرة، ينبع نهرٌ هادئٌ من الأموال والخسائر على حدّ سواء: عالم المقامرة والمراهنات. رغم التحريم الصارم والوصمة الدينية، تتسلل هذه الصناعة إلى أعماق الحياة اليومية، فتأسِر الشباب وتُلهِب أحلام الرابح السريع. فما سرّ هذا الإقبال المتزايد؟ وكيف استطاعت المقامرة أن تزدهر في الخفاء، مستثمرةً ضعف التشريعات واجتياز العقبات التقنية؟
نظرة عامة على المشهد العام
تُعتبر المقامرة (القمار) والمراهنات من الأنشطة المحظورة قانونيًا في معظم الدول العربية نظرًا لاعتبارات دينية واجتماعية، ومع ذلك فقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة تناميًا ملحوظًا في هذه الصناعة بالخفاء. يلجأ ملايين الأفراد في العالم العربي إلى أشكال مختلفة من القمار سواء عبر الإنترنت أو في أماكن سرية، مدفوعين برغبة المكسب السريع والضغوط الاقتصادية. وعلى الرغم من النظرة المجتمعية السلبية لهذه الممارسات، إذ يُنظر إليها كفعل “حرام” يجلب الفقر وسخط الله في الثقافة الشعبية، فإن الصناعة تواصل نموها مستترةً خلف الستار القانوني والاجتماعي. يقدّر محللون أن مساهمة اللاعبين من منطقة الشرق الأوسط في أرباح المقامرة العالمية كبيرة نسبيًا برغم الحظر، مما يشير إلى حجم الإنفاق الخفي في هذا المجال.
ملحوظة: فيما يلي نستعرض واقع صناعة القمار والمراهنات في الدول العربية، بالاستناد إلى أحدث التقارير (حتى عام 2024) وما توافر من بيانات حول عدد اللاعبين وخصائصهم، وحجم الإنفاق والأرباح، والشركات الرئيسية الناشطة، ووسائل ازدهار هذا النشاط سرًا رغم المنع القانوني، بالإضافة إلى تطور السوق خلال السنوات الأخيرة. كما أرفقنا جداول تلخص أبرز المؤشرات المتاحة لكل دولة أو لكل محور من المحاور المذكورة.
تشير بيانات عام 2022 إلى أن حوالي 30% من المصريين شاركوا في مراهنات رياضية ذلك العام
-
مصر: تشير بيانات عام 2022 إلى أن حوالي 30% من المصريين شاركوا في مراهنات رياضية ذلك العام. هذا الرقم لافت للانتباه ويفوق التوقعات، إذ يعني أن قرابة ثلث البالغين في مصر خاضوا شكلاً من أشكال المراهنة (معظمها على مباريات كرة القدم) خلال عام واحد. من هؤلاء، حوالي 13.6% استخدموا منصات وتطبيقات أونلاين للمراهنة، بينما الآخرين ربما شاركوا في مراهنات غير رسمية بين الأصدقاء أو لدى مشغلين محليين غير مرخصين.
-
المغرب: يُعد المغرب من الدول القليلة التي تسمح بأنشطة مقامرة محدودة تحت إشراف الدولة (مثل اليانصيب والرهانات الرياضية عبر “La Marocaine des Jeux et des Sports”). وفقًا لتقرير صحفي عام 2021، قُدِّر عدد المغاربة الذين شاركوا في ألعاب الحظ بحوالي 3.3 مليون شخص. هذا الرقم يمثل تقريبًا 9% من السكان، مما يعكس انتشارًا ملحوظًا (وإن كان الكثير منه عبر ألعاب اليانصيب الحكومية والسحب المباشر). ويُذكر أن 40% من هؤلاء اللاعبين صُنّفوا في فئة “عالي الخطورة” من حيث احتمال إدمان القمار.
-
لبنان: في لبنان مزيج فريد، حيث يوجد كازينو لبنان الشهير كواجهة قانونية惟، بالإضافة إلى اليانصيب الوطني (اللوتو) المرخّص، وفي المقابل تنتشر شبكات مراهنات غير رسمية عبر الإنترنت. لا تتوفر أرقام رسمية لعدد اللاعبين، لكن تقارير إعلامية أفادت بانتشار المقامرة الإلكترونية بين مختلف الفئات العمرية، خاصة الشباب. في إحدى البلدات جنوب لبنان مثلًا، انتشر القمار الإلكتروني بين عدد كبير من الأهالي لدرجة أن عشرات الأشخاص وقعوا في الإدمان خلال فترة وجيزة. كذلك ازدهرت شبكات المراهنات خلال كأس العالم 2022، إذ أعاد الحدث إحياء نشاط المقامرة (سواء القانونية في الكازينو أو غير القانونية عبر وكلاء المراهنات المحليين)
-
العراق: تفيد مصادر رسمية بأن الشباب العراقي هم من أكثر الفئات إقبالًا على ألعاب المقامرة حديثًا، خصوصًا عبر مواقع الكازينوهات على الإنترنت. وعلى الرغم من غياب إحصاءات علنية، تشير التقارير إلى انتشار واسع للكازينوهات الإلكترونية خلال الآونة الأخيرة في العراق. هذا يلمّح إلى وجود عدد كبير من اللاعبين العراقيين (خصوصًا دون سن الأربعين) المنخرطين في القمار عبر الإنترنت بشكل سري.
-
دول الخليج العربي: تفرض دول الخليج (السعودية، الإمارات قبل 2023، الكويت، قطر، البحرين، عمان) حظرًا تامًا على المقامرة، لذا لا توجد إحصاءات رسمية. مع ذلك، تشير التقديرات إلى وجود الآلاف من المقامرين النشطين في كلٍ من هذه الدول عبر المنصات الإلكترونية الأجنبية. على سبيل المثال، قُدّر حجم سوق المقامرة على الإنترنت في السعودية بحوالي 804 مليون دولار عام 2024، وهو ما يعكس ضمنيًا عددًا كبيرًا من المستخدمين السعوديين الذين يراهنون عبر الإنترنت (رغم عدم مشروعية ذلك محليًا). وبالمثل، يُعتقد أن الإماراتيين والقطريين وغيرهم يصلون لمواقع المراهنات عبر وسائل تقنية (VPN وغيره) بشكل فردي، وإن كان العدد أدنى نسبةً منه في الدول ذات الكثافة السكانية الأكبر مثل مصر أو المغرب.
تحليل: يتبين أن المشاركة في أنشطة القمار موجودة في مختلف المجتمعات العربية بنسب متفاوتة. بشكل عام، تتصدر الدول الأكثر سكانًا والأقل صرامة اجتماعيًا النسبة الأعلى من المقامرين (مثل مصر والمغرب ولبنان). في المقابل، تنخفض النسب (وإن لم تنعدم) في الدول الخليجية المحافظة رغم قوة المنع القانوني، حيث تبقى محصورة بفئة من الأفراد الذين يجدون طرقًا للالتفاف على الحجب.
التركيبة العمرية: توزيع الأعمار بين المراهنين
تشير الدراسات والملاحظات الميدانية إلى أن فئة الشباب هي الأكثر انخراطًا في المراهنات والقمار في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة. هناك عدة معطيات تدعم ذلك:
-
كشفت دراسة في عام 2024 أن 40% من البالغين الشباب في الشرق الأوسط يتقبلون فكرة المقامرة (أي لا يرونها أمرًا مرفوضًا تمامًا)، مقارنةً بحوالي 15% فقط من الأجيال الأكبر سنًا. هذا الفارق الكبير يؤكد وجود تغير ثقافي لدى الجيل الجديد الذي نشأ في عصر الإنترنت والعولمة، مما جعله أكثر عرضة لتقبّل ألعاب المراهنة (رغم الموقف الديني والاجتماعي الرافض تقليديًا).
-
في العراق، حذّرت مصادر من أن الشباب (خصوصًا في العشرينيات والثلاثينيات) هم الشريحة الأكثر انجذابًا لألعاب القمار الإلكترونيةmofa.gov.iq. ويُرجّح أن أسباب ذلك تشمل البطالة والضغط الاقتصادي ورغبة تحقيق الربح السريع، إلى جانب التأثر بثقافة الإنترنت والألعاب.
-
تقرير صحفي من لبنان وصف أحد المراهنين المخضرمين (35 عامًا) وكيف انتقل من ارتياد صالات كازينو تقليدية إلى المراهنة عبر المواقع الإلكترونية منذ 2017. هذا النموذج يعكس شريحة عمرية في منتصف الثلاثينات كانت تلعب في الأندية سابقًا لكنها احتضنت المنصات الرقمية سريعًا. كما أفاد التقرير ذاته بانتشار المقامرة الإلكترونية بين الشبان في بلدات جنوب لبنان بعد 2020، حتى أن البعض بدأ بالمقامرة في سن مبكرة عبر ألعاب الورق في المقاهي قبل أن ينتقل للمواقع الإلكترونية.
-
في المقابل، كبار السن نادرًا ما يُشاهدون في مشهد المراهنات الحديثة (باستثناء ربما بعض هواة لعب الورق التقليدي في مجالس خاصة أو مشاركين في اليانصيب الحكومي). الفجوة العمرية واضحة، حيث إن قليلًا من أفراد ما فوق الخمسين ينخرطون في القمار، ربما لاعتبارات دينية أقوى في هذه الفئة أو قلة إلمامهم بالتكنولوجيا التي تُسهّل الوصول للمواقع.
من المحفظة إلى الخسارة: متوسط الإنفاق
لا تنسَ أن وراء كل رهان صغير مبلغ قد تصل قيمته إلى 5–20 دولارًا، ومع تكرار الجلسات يصبح المتوسط الشهري للمقامر العربي بين عشرات ومئات الدولارات. وفي لحظات الانغماس العميق، تكشف قصص منتهيةً مأساوية: شابٌّ لبناني خسر 100 مليون ليرة وأُجبر على بيع منزله، وآخر فرّط في ممتلكاته كلها ليلاحق وهَمه بأن يصبح «المايسترو» على أدوات الحظ.
أرباح بالجملة.. وسوق سوداء أكبر
سوق المقامرة الرسمية محدود: المغرب يحصد 1.09 مليار دولار رسميًا (2024)، وكازينوهات القاهرة تولّد أكثر من 200 مليون دولار سنويًّا. لكن السوق غير الرسمي أكبر وأكثر غموضًا: تقدّر قيمة المقامرة الإلكترونية في الشرق الأوسط وأفريقيا بنحو 17.44 مليار دولار عام 2023، يقف وراءها مشغلو كازينوهات عالمية مثل Bet365 و1xBet، وشبكات محلية تسرق زهاء 75% من أموال اللاعبين قبل بدء اللعب.
آليات الازدهار في الظل
كيف يتم ذلك؟ أولًا، عن طريق المرايا الإلكترونية وVPN التي تفتح الأبواب المحظورة. ثانيًا، عبر وكلاء محليين يشحنون حسابات المقامرين نقدًا أو عبر خدمات مالية تبدو مشروعة، وأحيانًا بتغطية عملات رقمية لا تترك أثراً في سجلات البنوك. وثالثًا، عن طريق التسويق السري: مجموعات واتساب وتيليجرام، مؤثرون يستعرضون أرباحهم المزعومة، وعروض «التحدي» التي تَعِد بالمليارات.
رحلة التطوّر: 2019–2024
-
جائحة كوفيد-19: صُنفت محطة تحوّل، فانتقل آلاف اللاعبين إلى الإنترنت.
-
النمو المستمر: سوق المقامرة الإلكترونية يحقق نموًّا سنويًّا يفوق 8%.
-
انفتاح إماراتي: الهيئة العامة لتنظيم الألعاب التجارية (2023) تمهّد لأول كازينو شرعي في الخليج (منتجع رأس الخيمة 2026).
-
حملات التوعية: قصص الإدمان تنهش الوعي، وبيانات رسمية تحذر من «تآكل الجيوب».
-
احترافية الشبكات السوداء: عمل منظم وشبكات غسل أموال عبر العملات المشفرة.
الطريق إلى المستقبل
ستبقى المعادلة صراعًا بين القيم الدينية والقانونية من جهة، وغريزة المخاطرة والثروة من جهة أخرى. الخيارات بين:
-
المنع الصارم الذي يطلق سراح سوق الظل دون رادع فعّال،
-
التقنين المدروس الذي قد يحوّلها إلى مورد ضريبي، مع ضمانات اجتماعية لمكافحة الإدمان وغسل الأموال.
في النهاية، قد تكون الموازنة بين الحظر والتشريع بديلًا عقلانيًّا لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، مع الحفاظ على القيم وحماية الفئات الضعيفة. فهل سيستيقظ صانعو القرار، أم سيبقى الحلم بالمال السريع متربصًا بالأجيال الصاعدة؟